مرحباً بكم في موضع جديد من مواضيع فَذلَكة. لا تنسَ دعم محتوى فَذلَكة عبر مشاركة هذا الموضوع والاشتراك في القناة والضغط على زر الإعجاب - إن أعجبك الموضوع!
وقت القراءة المتوقّع: ٤ دقائق
أشباح العقل وحقيقة الواقع
هل نرى الحقيقة أم نصنعها في عقولنا؟
استيقظ السيّد (جون) ذات صباح وبعد فترةٍ من التعافي بعد بتر يده في حادثٍ ليس بالصغير من عدة أسابيع. استيقظ على شعورٍ غريبٍ ومُقلق: يده المبتورة مشدودةٌ بقوةٌ في قبضةٍ مؤلمةٍ ومتشنجة، ولا يمكنه "فتحها" مهما حاول! إنها ليست مجرد ذكرى، بل إحساس جسدي حقيقي ومستمر بالتشنّج والألم، يأتي من لا شيء!
هذا بالضبط ما واجهه العديد من المرضى الذين لجأوا إلى طبيب الأعصاب فيلايانور راماتشاندران. وكان هذا الوصف لأحد مرضاه، الذي فقد ذراعه فوق الكوع. وبعدها قضى سنواتٍ يعاني من هذا الإحساس العالق الذي لا يستجيب لأي علاج. هذه التجربة، الموثّقة في أعمال راماتشاندران (مثل كتابه الشهير "Phantoms in the Brain")، ليست مجرّد حالة فردية غريبة، بل هي نافذة مدهشة على كيفية بناء الدماغ لواقعنا الحسي. كيف يمكن لدماغنا أن "يُصرّ" على وجود شيء تم فقده جسدياً، بل ويُضفي عليه شعوراً حقيقياً وملموساً، وأحياناً معذِّباً؟
قد تبدو هذه الظاهرة وكأنّها قادمة من رواية خيال علمي، كانت مفتاحاً لأحد ألمع العقول في مجال علم الأعصاب الحديث، البروفيسور فيلايانور سوبرامانيان راماتشاندران. كشف لنا نتيجة أبحاثه حقيقةً مذهلة: إنّ إدراكنا للعالم، بما في ذلك إدراكنا لأجسادنا وشعورنا بالألم، ليس مجرد استقبال سلبي للمعلومات من الحواس، بل هو عملية بناءٍ نشطة يقوم بها الدماغ باستمرار. عقلنا ليس مجرد مرآة تعكس الواقع الخارجي، أو كاميرا تصوّر “بموضوعية”. بل هو فنانٌ مبدعٌ يرسم لوحة هذا الواقع، وأحياناً، قد تحتوي هذه اللوحة على تفاصيل لا وجود لها في الأصل، أو قد يتجاهل تفاصيل موجودة بالفعل!
اخدع دماغك!
قدمت أعمال البروفيسور راماتشاندران الموصوفة غالباً بالبساطة المبتكرة، رؤى ثورية. لعل أشهرها هو "صندوق المرآة" (Mirror Box). لاحظ راماتشاندران أن العديد من مبتوري الأطراف يعانون من آلام شديدة في أطرافهم الشبحية، وأحياناً يشعرون بأن الطرف الشبحي متشنج في وضع مؤلم ولا يمكنهم "تحريكه". فأتى بهذه الفكرة البسيطة بشكلٍ عبقري: يضع المريض طرفه السليم في جانب من الصندوق، بينما يضع مكان الطرف المبتور في الجانب الآخر، وتوضع مرآة في المنتصف بحيث تعكس صورة الطرف السليم ليبدو وكأنه الطرف المبتور. عندما يُطلب من المريض تحريك طرفه السليم والنظر في المرآة، يرى "طرفه الشبحي" وهو يتحرك.
نجح هذا الخداع البصري البسيط بشكلٍ مذهل في تخفيف الألم لدى العديد من المرضى، بل وفي "فك تشنج" الطرف الشبحي. لماذا؟ لأن الدماغ، الذي كان يتلقى إشارات متضاربة (غياب الإشارات الحسية من الطرف المبتور مع استمرار الخريطة العصبية له)، حصل فجأة على تغذية راجعة بصرية مُطابقة لما يتوقعه عند الحركة. هذا "أقنع" الدماغ بأن الطرف يتحرك فعلاً، مما ساعد على تخفيف الألم الناتج عن الإشارات العصبية "المُعلقة".
يمكنك مشاهدة فيديو من البروفيسور يوضّح الموضوع:
أرجوك اقطع يدي!
امتدت استكشافات راماتشاندران لتشمل ظاهرة "رهاب الأبوتمنوفيليا"، المعروفة الآن علمياً بـ"اضطراب تكامل هوية الجسم" (Body Integrity Identity Disorder - BIID). هؤلاء الأفراد يشعرون بأن طرفاً معيناً من أجسادهم (غالباً الساق) هو غريب عنهم، دخيل، ويجب التخلص منه. افترض راماتشاندران أن هذا قد ينجم عن خلل خلقي في منطقة القشرة الجدارية اليمنى بالدماغ (Right Parietal Cortex)، وهي منطقة حيوية لرسم "خريطة الجسم" وتكامل المعلومات الحسية لتكوين صورة متماسكة للذات الجسدية. إذا كانت هذه المنطقة لا "تعترف" بالطرف المعني كجزء من الجسم، فقد يترجم هذا الشعور إلى رغبة قوية في البتر.
تُبرِز هذه الأمثلة بقوة كيف أن تجربتنا الذاتية، بما فيها الألم، ليست مجرد انعكاس مباشر للمؤثرات الخارجية أو الداخلية، بل هي نتاج تفسير وتأويل نشط يقوم به الدماغ بناءً على خرائطه وتوقعاته وخبراته السابقة. الألم، بشكل خاص، ليس مجرد إشارة ضرر جسدي، بل هو تجربة مُعقدة تتأثر بالحالة النفسية، الانتباه، المعتقدات، وحتى السياق الاجتماعي. فهم هذه "اللدونة" أو "المرونة" (Plasticity) في إدراك الألم يفتح آفاقاً جديدة للعلاج، تتجاوز مجرد المسكنات لتشمل تقنيات التأثير على تفسير الدماغ لهذه الإشارات.
وهذا يقودنا إلى تأمل أعمق: إذا كان الدماغ قادراً على خلق أو تعديل تصورات جوهرية مثل الإحساس بأطرافنا أو الشعور بالألم، فما هي حدود قدرته على تشكيل جوانب أخرى من تجربتنا الذاتية؟ هل يمكننا، بفهم هذه الآليات، أن نتعلم كيف نوجه هذه القدرة الهائلة لصالحنا، لتحسين حياتنا وتجاوز تحدياتنا النفسية والجسدية؟
وما علاقتي بذلك!؟
ألم تلاحظ أنّك تكثر من هذه الأسئلة مؤخراً؟ ومع ذلك أنا أكتب لأجيبك!
قد تبدو حكايات الأطراف الشبحية أو الرغبة في بتر طرف سليم بعيدة عن حياتنا اليومية، أليس كذلك؟ ولكن فكّر معي: إذا كان الدماغ قادراً على خلق إحساس بطرف غير موجود، أو رفض طرف موجود، فما هي "الأوهام" أو "القيود الشبحية" الأخرى التي قد نعيشها دون أن ندرك؟ كم مرة شعرنا بألم نفسي حاد بسبب موقف، بينما شخص آخر في نفس الموقف لم يتأثر بنفس القدر؟ هل هذا يعني أن "واقع" الموقف مختلف، أم أن "مرآة العقل" لدينا فسّرته بشكل مختلف؟
فكر في المعتقدات التي نتبناها عن أنفسنا وقدراتنا. "أنا لست جيداً في التحدث أمام الجمهور"، "لا أستطيع الالتزام بالتمارين الرياضية"، "من المستحيل أن أتعلم لغة جديدة في هذا العمر". أليست هذه أحياناً كـ"الأطراف الشبحية المتشنجة" التي تعيق حركتنا وتسبب لنا الألم (الإحباط، القلق، ضياع الفرص)؟ إنّ هذه المعتقدات المقيّدة قد لا تستند إلى حقيقة موضوعية مطلقة، لكن تأثيرها على حياتنا حقيقي وملموس.
فذلكة الفَذلكة
إنّ إدراكنا للعالم، بما في ذلك أجسادنا ومشاعرنا، هو نتاج تفسير وتأويل مستمر، وهذا التفسير قابل للتغيير والتعديل. يفتح هذا الفهم أمامنا أبواباً عملية لتطوير الذات وتحسين جودة الحياة:
قوة التفسير: الخطوة الأولى هي أن ندرك أن مشاعرنا وردود أفعالنا ليست دائماً نتيجة حتمية للأحداث الخارجية، بل تتأثر بشكل كبير بطريقة تفسيرنا لهذه الأحداث. لاحظ أفكارك وتساؤلاتك التلقائية عند مواجهة تحدٍ أو شعور بالألم (جسدي أو نفسي).
استخدام "مرآة العقل" بوعي: كما أن المرآة في صندوق راماتشاندران قدمت للدماغ معلومة بصرية جديدة، يمكننا أن نقدم لأدمغتنا "معلومات" جديدة من خلال:
التصور الإيجابي (Visualization): تخيل نفسك تنجح في موقف تخشاه، أو تشعر بالراحة في جسدك. هذا يوفر للدماغ "تغذية راجعة" بديلة.
إعادة الصياغة المعرفية (Cognitive Reframing): تحدَّ المعتقدات السلبية المقيدة. اسأل نفسك: "هل هذا الفكر صحيح 100%؟ ما هي التفسيرات الأخرى الممكنة؟ كيف يمكنني النظر إلى هذا الموقف بطريقة أكثر إيجابية أو تمكيناً؟"
اليقظة الذهنية (Mindfulness): مراقبة الأفكار والمشاعر والأحاسيس الجسدية (بما في ذلك الألم) دون حكم أو مقاومة. وتذكّر موضوع قوة المشاعر
الصبر والممارسة: مرونة الدماغ (Neuroplasticity) حقيقية، لكن التغيير لا يحدث بين عشية وضحاها. تماماً كما احتاج مرضى راماتشاندران لجلسات متكررة مع صندوق المرآة، فإن تغيير أنماط التفكير والتصورات يتطلب ممارسة متسقة وصبراً.
إن فهمنا لعمل الدماغ ليس مجرد فضول علمي، بل هو مفتاح لتمكين ذواتنا. نحن لسنا مجرد ضحايا لظروفنا أو بيولوجيتنا، بل لدينا القدرة، من خلال فهم وتوجيه "مرآة العقل" لدينا، على المشاركة بفعالية في صياغة تجربتنا وتحقيق حياة أكثر صحة ورضا.
شكراً لوقتك! أتمنى لك أسبوع سعيد ملهم بعيداً عن الأفكار الشبحية!
هاد الكتاب اللي بقرا منو كم صفحة وباخد استراحة كذا اسبوع 😂