مرحباً بكم في موضوع جديد ومهم لكل شخص ولكل أب أو أم!
إذا لم تكن مشتركاً بعد في النشرة البريدية يمكنك الاشتراك ليصلك كل أسبوع مني موضوع علمي مبني على أبحاث محكّمة. تذكّر أنّ هذا ليس ترفاً علمياً وإنما هو محاولة مني لفهم أمور تواجهني في حياتي وبالتالي لا بدّ أن تكون قد واجهتك مرةً ما أو ستواجهك في رحلة الحياة!
بوصلة البطريق الإمبراطور: كيف يوجهنا التعلّق الآمن في رحلة الحياة؟
في قلب القارة القطبية الجنوبية المتجمدة، حيث تتراقص أضواء الشفق القطبي في سماءٍ لا تعرف ليلًا طويلًا أو نهارًا دائمًا، تتجلى واحدة من أروع قصص التفاني والبقاء في عالم الحيوان. إنها رحلة البطريق الإمبراطور، هذا الكائن المذهل الذي يتحدّى أقسى الظروف البيئية على وجه الأرض ليمنح الحياة لصغاره.
يقف الأب البطريق صامدًا لشهورٍ طوال في بردٍ قارس، يحتضن بيضته الوحيدة بين قدميه وغطاء جلده السميك، لا طعام ولا شراب، بإصرارٍ عجيبٍ على حماية الجيل القادم. وعندما تفقس البيضة أخيرًا، تكون الأم قد عادت من رحلةٍ بحريةٍ شاقة، قطعت فيها مئات الكيلومترات بحثًا عن الغذاء، لتعود مُحمّلة بالطعام لصغيرها الجائع.
هذه الصورة المدهشة لبطريق الإمبراطور وصغيره ليست مجرد قصة آسرة من عالم الطبيعة، بل هي نافذة نطل منها على فهمٍ أعمق لأنفسنا كبشر. فكما أن صغير البطريق يعتمد كليًا على والديه كـ "قاعدة آمنة" ينطلق منها لاستكشاف محيطه الجليدي المحدود ويعود إليها طلبًا للدفء والحماية، كذلك نحن البشر، نبدأ حياتنا برحلة بحثٍ فطرية عن قاعدة آمنة مماثلة. تتشكّل هذه القاعدة عادةً من خلال علاقتنا بمقدمي الرعاية الأوليين، غالبًا الوالدين، هي حجر الزاوية في تكويننا النفسي والعاطفي. إنها البوصلة الداخلية التي ستوجه خطواتنا في علاقاتنا المستقبلية، وتحدد مدى شعورنا بالأمان والثقة في هذا العالم الواسع.
نظرية التعلق
هنا نصل إلى جوهر "نظرية التعلق" (Attachment Theory)، وهي واحدة من أهم النظريات في علم النفس التنموي. طورها العالمان جون بولبي وماري أينسورث في منتصف القرن العشرين، وأحدثت ثورة في فهمنا لكيفية تأثير العلاقات المبكرة على مسار حياتنا بأكملها. يشير بولبي إلى أن الحاجة إلى التعلق هي حاجة بيولوجية أساسية، تمامًا كالحاجة إلى الطعام والمأوى. فالطفل يولد ولديه ميل فطري للبحث عن القرب من شخص يوفر له الحماية والرعاية، خاصةً عند الشعور بالخطر أو التوتر. هذا الشخص، أو "مُرفق التعلق"، يصبح "قاعدة آمنة" (Secure Base) ينطلق منها الطفل لاستكشاف العالم، و"ملاذًا آمنًا" (Safe Haven) يعود إليه عند الشعور بالخوف أو الضيق.
قدّمت أبحاث ماري أينسورث، وخاصة تجربتها الشهيرة "الوضع الغريب" (Strange Situation Procedure)، دليلًا عمليًا على وجود أنماط مختلفة من التعلّق تتشكل بناءً على جودة التفاعل بين الطفل ومقدم الرعاية. كشفت هذه التجربة، التي تتضمن سلسلة من الانفصالات واللقاءات القصيرة بين الطفل وأمه وشخص غريب في بيئة غير مألوفة، عن ثلاثة أنماط رئيسية للتعلق في الطفولة، والتي وُجد لاحقًا أن لها امتدادات وتأثيرات في مرحلة البلوغ. على سبيل المثال، دراسة تلو الأخرى أكدت أن الأطفال الذين يختبرون رعاية متسقة، متجاوبة، وحساسة لاحتياجاتهم يطورون غالبًا "تعلقًا آمنًا". بينما قد تؤدي الرعاية غير المتسقة أو المتجاهلة أو المتدخلة بشكل مفرط إلى تطوير أنماط تعلق غير آمنة.
للتوسع في هذا الجانب، يمكن الإشارة إلى عمل كيم بارثولوميو وآخرين الذين وسعوا فهمنا لأنماط التعلق في البالغين. ففي ورقة بحثية هامة بعنوان: "Attachment styles among young adults: a test of a four-category model" المنشورة في Journal of Personality and Social Psychology عام 1991. قدّم بارثولوميو وهورويتز نموذجًا رباعيًا لأنماط التعلق لدى البالغين، مبني على نظرتي الفرد لنفسه (إيجابية أم سلبية) ونظرته للآخرين (إيجابية أم سلبية).
لكن كيف تظهر هذه الأنماط في حياتنا اليومية كبالغين؟
نمط التعلق الآمن (Secure Attachment): هؤلاء الأشخاص، مثل صغير البطريق الذي يشعر بالثقة في عودة والديه، يشعرون بالراحة في العلاقات الحميمة، ويثقون في شركائهم وأصدقائهم. لا يخشون الاعتماد على الآخرين أو أن يعتمد الآخرون عليهم. لديهم توازن صحي بين القرب والاستقلالية. في علاقاتهم، تجدهم قادرين على التواصل بفعالية، والتعبير عن مشاعرهم واحتياجاتهم بوضوح، وحل النزاعات بشكل بنّاء. إنهم يمتلكون "بوصلة بطريق" داخلية توجههم بثقة نحو علاقات مُرضية ومستقرة.
نمط التعلق القَلِق (Anxious-Preoccupied Attachment): هل شعرت يومًا بقلق شديد من فكرة أن يتخلى عنك شريكك أو صديقك؟ هل تجد نفسك بحاجة دائمة إلى الطمأنة والتأكيد على حب الآخرين لك؟ قد يكون هذا مؤشرًا على نمط التعلق القلق. أصحاب هذا النمط غالبًا ما يشعرون بعدم الأمان في علاقاتهم، ويخشون الهجران، وقد يبدون "متشبثين" أو "محتاجين" بشكل مفرط. بوصلتهم الداخلية قد تكون حساسة جدًا لأي إشارة قد تفسر على أنها رفض أو ابتعاد.
نمط التعلق المتجنب (Dismissive-Avoidant Attachment): على النقيض، هناك من يفضلون الاستقلالية إلى أقصى حد، ويشعرون بعدم الارتياح تجاه القرب العاطفي. قد يبدون منعزلين أو غير مبالين بمشاعر الآخرين. يميلون إلى التقليل من أهمية العلاقات، ويجدون صعوبة في الاعتماد على الآخرين أو السماح للآخرين بالاعتماد عليهم. كأن صغير البطريق قرر أنه لا يحتاج إلى دفء والديه ويمكنه مواجهة العاصفة الثلجية بمفرده – وهو أمر غير واقعي للبقاء. بوصلتهم تشير دائمًا نحو "الاكتفاء الذاتي" حتى لو كان ذلك على حساب العلاقات العميقة.
هناك أيضًا نمط رابع يُعرف أحيانًا بـ التعلق الخائف أو غير المنظم (Fearful-Avoidant/Disorganized Attachment)، وهو يجمع بين سمات القلق والتجنب. أصحابه يرغبون في القرب ولكنهم يخشونه في الوقت ذاته، مما يجعل علاقاتهم متقلبة ومربكة.
تخيل أنك تحمل إحدى هذه البوصلات. كيف ستؤثر على اختيارك لشريك الحياة؟ كيف ستتعامل مع الخلافات في صداقاتك؟ كيف ستستجيب لاحتياجات أطفالك إن كنت أبًا أو أمًا؟ الأمر ليس مجرد فضول أكاديمي، بل هو فهم عميق لذواتنا ولديناميكيات علاقاتنا.
شكراً، إذا فات الأوان؟
الخبر السار، والذي أؤمن به بشدة كطبيب، هو أننا لسنا سجناء أنماط تعلقنا المبكرة. حتى لو لم تكن بداياتنا مثالية، وحتى لو كانت بوصلتنا الداخلية بحاجة إلى إعادة معايرة، فإن التغيير ممكن. يمكننا تطوير ما يُعرف بـ "التعلق المكتسب الآمن" (Earned Secure Attachment) في مرحلة البلوغ. وهذا يعني أنه حتى لو كان نمط تعلقنا الأصلي قلقًا أو متجنبًا، يمكننا من خلال الوعي والجهد وخوض تجارب علاقات إيجابية أن نكتسب سمات التعلق الآمن.
كيف يتم ذلك؟
الوعي الذاتي: الخطوة الأولى هي فهم نمط تعلقك الحالي وتأثيراته على سلوكك ومشاعرك. قراءة مقالات كهذه، أو كتب متخصصة، أو حتى إجراء اختبارات تقييم أنماط التعلق (المتاحة عبر الإنترنت أو من خلال مختصين) يمكن أن يكون نقطة انطلاق جيدة.
العلاقات الصحية: الدخول في علاقة مع شريك يتمتع بنمط تعلق آمن يمكن أن يكون تجربة تصحيحية شافية. هذا الشريك يمكن أن يوفر لك "القاعدة الآمنة" التي ربما افتقدتها في طفولتك، ويعلمك بالقدوة كيف تبدو الثقة والتواصل الصحي.
العلاج النفسي: يمكن للمعالج النفسي، خاصة المتخصص في نظرية التعلق، أن يساعدك على استكشاف جذور نمط تعلقك، وفهم كيف يؤثر على حياتك الحالية، وتطوير استراتيجيات لبناء علاقات أكثر أمانًا وإشباعًا. يوفر المعالج نفسه بيئة آمنة (قاعدة آمنة) لاستكشاف هذه الجوانب الحساسة.
نُشرت دراسة بعنوان "Stability and change in attachment styles: a meta-analysis" في Personality and Social Psychology Review عام 2011 بواسطة فريلي وآخرون، وجدت من خلال تحليل تلوي (meta-analysis) لعدد كبير من الدراسات أن أنماط التعلق، بينما تُظهر درجة من الاستقرار، إلا أنها قابلة للتغيير على مدار الحياة، خاصة استجابةً لتجارب حياتية مهمة في العلاقات. هذا يعطي أملًا كبيرًا في إمكانية تطوير تعلق مكتسب آمن.
إن رحلة البطريق الإمبراطور هي رحلة تضحية وحب وتفانٍ من أجل منح صغيره أفضل بداية ممكنة في الحياة. وبالمثل، فإن فهمنا لنظرية التعلق يمنحنا فرصة لنقدم لأنفسنا ولأحبائنا "قاعدة آمنة" ننطلق منها نحو حياة أكثر ثقة وسعادة. إنها دعوة لنكون واعين بالبوصلة التي نحملها، ولنتعلم كيف نوجهها نحو علاقات تُثري حياتنا وتدعم نمونا.
أتمنى أن يكون هذا المقال قد أضاء لكم جانبًا مهمًا من رحلتكم نحو فهم أعمق لأنفسكم وعلاقاتكم. تذكروا دائمًا، كما يعود صغير البطريق إلى دفء والديه، يمكننا نحن أيضًا أن نسعى ونعمل من أجل بناء وإصلاح قواعدنا الآمنة.
إذا أعجبك المقال لا تنسَ مشاركته مع من قد يستفيد منه!
دمتم بخير وبوصلتكم دائمًا نحو الأمان والنمو.



