سر السعادة الذي نبحث عنه جميعاً
قد يكون في القيم المتطرّفة!
مرحباً بكم في موضوع اليوم. موضوع اليوم مهم ودسم.
وقت القراءة المتوقّع: ٨ دقائق
درست كثيراً في الجامعة، سهرت اليالي، طالعت الكتب المختلفة وقضيت معظم أوقاتك في مكتبة الجامعة أو في مجموعات الدراسة. كانت الملخصات والمراجع هي التي تؤنس فنجان القهوة الكبير في ليالي الشتاء الطويلة كي لا يسرقك النعاس من مكتبك الدراسي.
تخرّجت (ألف مبروك)، ناضلت وتعبت في البحث عن الفرصة الذهبية في شركةٍ كبرى بمنصبٍ يناسب تفكيرك تماماً، زملاء عمل مميزون وبيئة تنافسية مميزة. أو لربما في مشفىَ مهمٍ في أكبر مدن بلادك وفي الاختصاص الذي لطالما طمحت للعمل به، إمكانية التعلّم على أحدث البروتوكولات والأنظمة. قلت في نفسك: “آه، إذا حصلت على هذا العمل فقط، سأكون أسعد شخصٍ على وجه الأرض”.
تحصل على هذا العمل، تبدأ العمل، وبعد اسبوعين أو شهرين أو فترة ليست بالطويلة. تنسى كل تلك الأحلام وتركّز وبشكلٍ خاص ليس على النعمة التي أنت فيها، بل على المنافسة، حجم العمل، مقدار التعب، الضغط النفسي والشكاوي التي لا تنتهي!
تصادف بعد مرور فترةٍ ما، أحد الأصدقاء من أيام الطفولة. يسألك عن أخبارك، وعندما تخبره، يقول لك: “لا بدّ أن تكون سعيداً، لكن لا تبدو كذلك. ما الأمر؟ احْمِد الله يا أخي! لو استطاع جدّي الحصول على ما حصلت أنت عليه، لبقي على قيد الحياة!”
ما الأمر إذاً؟ ما الذي حصل وخرّب عليك سعادتك؟ لا بد أنّها ضغوط العمل والحياة، لو أنّك تستطيع الإنتقال إلى العمل في الشركة الفلانية. بالطبع ستكون سعيداً هناك!
وتستمر بوضع أهدافٍ وشروطٍ جديدة بل يمكن تسميتها حواجز بينك وبين السعادة!
الجواب:
للأسف فهمنا الموضوع بشكلٍ خاطئ. وهذا ليس رأي بل رأي الأبحاث التي جرت خلال العشرين عاماً الماضية عن الموضوع.
تابع معي لتعرف خلاصة هذه الأبحاث لأني متأكد أنّك ستنصدم مثل صدمتي تماماً.1
المتوسط، الغالب والقيم المتطرفة
تركّز الدراسات العلمية عادةً على استخلاص المعلومات التي يمكن أن يتم استخدامها على نطاقٍ واسع من قبل مجتمعات كبيرة. تتكوّن من أفراد مختلفين جينياً، فكرياً، عرقياً، عمرياً وحتى ثقافياً في كثيرٍ من الأحيان. وبالرغم من محاولة الباحثين الحثيثة لإزالة هذا التأثير المخالط (Confounding) إحصائياً2، يبقى التركيز على المتوسط والتقليدي. وكيف يمكن أن نجعل الأشخاص المشاركين في الدراسة أقرب للمتوسط.
لكن يركّز الباحث Shawn Anchor والمحاضر في جامعة هارفرد في أبحاثه عن السعادة على الأشخاص أو “القيم المتطرّفة” ليصل إلى الأساليب التي تمكّننا كأفراد من معرفة ما يميّز هؤلاء الأشخاص وكيف يمكننا الارتقاء لنصبح “قيم متطرّفة” مثلهم!
عدسة مختلفة
إذا كنت تعيش معنا في هذا الوقت في هذا العالم، ولم تكن مسافراً عبر الزمن! تستطيع الجزم بكل تأكيد أنّ الأمور السلبية التي تحدث فيها هذا الوقت تفوق بأضعاف المرات الأمور الإيجابية. وكما يقول جدّك: “آخر الزمان”!
لقد طورنا قدرة رهيبة في النظر إلى ما حولنا والبحث بشكلٍ خاص عن النواقص والأشياء السلبية. قد يقول البعض ولربما أنا وأنت منهم: "أنا لست سلبي ولا سوداوي! أنا شخص واقعي فقط."
وهنا يمكنك أن تتأكّد أنّه سلبي!
لا ألومه ولا ألوم نفسي، فهناك بعض الأشياء التي علينا بذل الجهد لتعديلها. تحدّثت عن هذا الموضوع العام الفائت. أنصحك بقراءته: هل أنت سلبي بالفطرة؟
يرى شون أنّ لبّ الخطأ الذي نرتكبه جميعاً كمجتمع في الإجابة عن سؤال السعادة والبحث عن مصدرها هو العدسة التي ننظر فيها. نعتبر أنّ العالم الخارجي هو المحدّد الأساسي لسعادتنا، ننظر من خلال عدسةٍ تشوّه المنظور الحقيقي للسعادة. ولا يمكن التنبؤ بسعادتك على المدى البعيد - بحسب أبحاث شون المختلفة والتي استمرت على مدار أعوامٍ طويلة - بأكثر من ١٠٪ عند معرفة العالم الخارجي والظروف المحيطة بك. و يمكن التنبؤ بـ ٩٠٪ من سعادتك على المدى الطويل بالطريقة التي يقوم بها دماغك بمعالجة العالم المحيط بك. وإذا استطعنا تغيير تلك الطريقة، نستطيع تغيير فهمنا لمعادلة السعادة والنجاح!
“يمكن التنبؤ بـ ٢٥٪ فقط من قدرة الموظّف على النجاح بعمله في منصب معيّن بمعرفة ذكائه وقدراته التقنية، لكن يمكن التنبؤ ب ٧٥٪ من تلك القدرة عن طريق ثلاثة أمور مهمة: التفاؤل المنطقي (وهي معرفة أنّ سلوكك في وقت المِحن مهم جداً)، علاقاتك الاجتماعية 3(عمق هذه العلاقات واتساعها) والطريقة التي تنظر فيها إلى الضغط أو التوتر 4 (إذا كنت تنظر إليه كتحدٍ وليس كتهديدٍ لك).”
لماذا النجاح لا يؤدي إلى السعادة؟
تقوم في كل مرةٍ تضع فيها هدف وتربط سعادتك به وبعد الوصول إليه، بوضع هدفٍ جديد. (إذا حصلت على عملٍ مميز كنت ترغب به، ستفكّر بالخطوة القادمة وهي عمل أفضل!)
لكن إذا استطعنا عكس الموضوع عن طريق زيادة التفاؤل لدينا في الوقت الحاضر، فسنحصل على أداءٍ أفضل بثلاث مراتٍ على الأقل بحسب تحليل احصائي موثوق ”Meta-analysis” استخلص النتائج من حوالي ٢٢٥ دراسة أكاديمية موثقة أيضاً. ما وجده هذا التحليل:
تزداد انتاجيتك بمقدار ٣١٪
تزداد مبيعاتك (إذا كنت تعمل في هذا المجال) بمقدار ٣٧٪
تزداد دقة الأطباء وسرعتهم على التشخيص بمقدار ١٩٪
ستقول لي الآن:
دعني أتأكد أنّي استطعت فهم ما تقوله لي. تقول لي أنّه عليّ أن أصبح أكثر إيجابية أو تفاؤلاً أي أكثر سعادة، وعندها أصبح ناجحاً أكثر. على فرض أنّي اقتنعت بكل تلك الأبحاث التي سقتها لي في هذا الموضوع (إذا لم تقتنع، أنصحك بمراجعة موضوع لماذا لا تقنعنا الحقائق) هل انتقالي من حالتي التي أنا فيها إلى حالةٍ أكثر سعادة هو بهذا السهولة؟ هل هناك زر لتفعيل ذلك الأمر؟ أعتقد أنّ الموضوع ليس إلا مثل غيره من كتب التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية والتي تحثّنا على رؤية العالم من خلال فقاعة زهرية بعيدةً كل البعد عن الواقع.
حسناً، إذا كنت ترى ذلك. لا بأس. تابع معي. فقد قرأت أكثر من ثلثي موضوع اليوم ولم يتبقى إلا الثلث الأخير. يمكنك بالطبع تجاوزه وإغلاق هذه الرسالة. لكن لا أنصحك بذلك أبداً. ما تبقى هو مختلف وبعيد كل البعد عن تلك العلوم الزائفة بل هو علم حقيقي ومثبت بأبحاثٍ منشورةٍ في مجلاتٍ محكّمة ومرموقة.
كيف يمكنني قلب المعادلة؟
كما قرأت أعلاه، هناك ثلاثة محاور للتعامل مع الموضوع. وسأحاول باختصار تسليط الضوء عليها جميعاً
تغيير العدسة
عمل شون من خلال أبحاثه ومن خلال عمله مع الشركات والمؤسسات التعليمية المختلفة في مختلف بلدان العالم على مجموعة من الأمور والعادات البسيطة التي تمكننا من تحقيق سعادة مستدامة في حياتنا. تساعد هذه الطرق على تغيّر العدسة التي ننظر فيها للعالم من حولنا، تحفّز التفاؤل المنطقي وتقود إلى المزيد من النجاح:
التفاؤل المنطقي
هو التفاؤل المبني على تحليل واقعي للحاضر. وهو الطريقة التي نقرر فيها التعامل مع الواقع حولنا. حيث يعي المتفائل المنطقي أنّ الأمور حوله قد تكون ايجابية أو سلبية لكن يعي أيضاً أن سلوكه وتصرفاته قادرة على التأثير في هذه الأمور بشكلٍ فعّال. يجب أن تغيّر في واقعك وليس فقط أن تفكّر بصورة ايجابية.
أمور ممتن لها: وجد شون وغيره من الباحثين قبله أنّ دفع الموظفين على القيام بكتابة ٣ أشياء جديدة ممتنين لها كل يوم على مدار ثلاثة أسابيع متتالية، تؤدي إلى تغيير الطريقة التي نعالج فيها الأمور حولنا. فننتقل من التركيز على الأمور السلبية إلى البحث عن الامور الإيجابية في حياتنا أولاً.
لن تقوم بالطبع بالاستمرار بهذا الموضوع طيلة حياتك، لكن كتدخل بسيط وسريع لمدة قصيرة ومن ثم تنتقل للقيام بذلك بضعة أيام في الأسبوع.
الكتابة: تساعد كتابة المذكرات في تحسين الصحة والصحة العقلية، التحكّم بمستويات القلق، والتحكّم بالأفكار السلبية ومعالجتها
ممارسة الرياضة: تساعد ممارسة الرياضة دماغنا على معرفة أنّ ما نقوم به من أشياء مهم في تغيّير واقعنا.
اللطافة أو الإحسان دون مقابل: قد تكون هذه الأعمال هي أعمال صغيرة حقاً مثل كتابة رسالة شكر بسيطة وصغيرة أو مدح (يجب أن يكون حقيقي، دون مقابل كالتملّق مثلاً) لأحد الزملاء في العمل أو أحد الأصدقاء.
تساعد السلوكيات البسيطة هذه على تحسين رضاك وسعادتك بشكلٍ ملحوظ مما يساهم في خلق أساس للانطلاق للمراحل القادمة!
حيوان اجتماعي!
قد يخيّل لنا أنّ طريق النجاح واضح: العمل بجدٍ واجتهاد، الابتعاد عن ما يلهي ويشوّش ومن بينهم الأصدقاء والجمعات العائلية اللطيفة أو غير اللطيفة وقضاء الليالي والساعات الطويلة منعزلاً عن العالم للتركيز فقط على ما تريد تحقيقه. تحتوي هذه الوصفة المجتمعية التي زُرعت فينا منذ طفولتنا على جانبٍ صحيح من جدٍّ واجتهادٍ، لكنّها في الوقت نفسه تقودنا إلى مختلف الأمراض!
كيف؟
لا تأتي هذه النصيحة، بل لا تكون الحياة بالمجمل خاليةً من التوتر والقلق، قلق الدراسة، الخوف من الامتحان، قلق تدبير الأمور المعيشية. التنمّر وغيرها من الأمور. بحسب شون:
“لاحظنا من خلال الدراسات المختلفة أن أفضل الأشخاص تجاوزاً للتوتر والقلق هم الأشخاص الذين زادوا استثمارهم في العلاقات الاجتماعية. وهذا تماماً عكس ما نقوم به عادةً”
“بل لاحظنا أنّ التواصل الاجتماعي من ضمن أهم الأشياء التي تحدّد النجاح في التحصيل الأكاديمي”
لذلك تكاد تركّز جميع الدراسات (على الأقل جميع الدراسات التي وجدتها أثناء بحثي عنها) على أنّ المحدّد الأساسي لساعدتك في هذا العالم هو استثمارك في علاقاتك الاجتماعية. ويمكن القول: عليك بزيادة استثمارك في العلاقات الاجتماعية ذات المعنى لك، مع كلّ زيادةٍ في الضغط والتوتر أو مع كلّ ترقيةٍ تحصل عليها وما يرافقه من مسؤوليات!
ليس من الضروري أن يكون هذا الاستثمار كبيراً، المهم أن يكون ذو معنىً لك وللطرف المقابل. قدّم وقتك لغيرك حاول أن تقوم بذلك دون مقابل وقدّم الدعم بوقتك، بجهدك أو حتى بأفكارك لغيرك!5
المِحن هي تحديات وليست تهديدات
تحدّد الطريقة التي ننظر فيها إلى العقبات التي نواجهها سعادةً، مستويات الرضا في حياتنا وحتى نجاحنا. تحدّثت عن هذا الموضوع بالتفصيل سابقاً. أدعوك لمراجعة الموضوع الآن لأنّه في غاية الأهمية.
لكن وخلال بحثي وجدت أنّ هناك إضافة مهمة جديدة لتلك الأبحاث التي أوردتها في الموضوع ذلك، لذلك سأحرص على عرضها في الأيام القادمة.
إليك ملخص الملخص:
السعادة تؤدي بالضرورة إلى النجاح وغالباً العكس ليس صحيح
للبحث عن السعادة عليك التركيز على ثلاثة أمور: التفاؤل المنطقي، العلاقات الاجتماعية والتعامل مع التوتر التفاؤل المنطقي هو تغيير العدسة التي ننظر فيها للعالم عن طريق معرفة أن سلوكنا يحدد سعادتنا ويعدّل واقعنا
استثمارك في العلاقات الاجتماعية وحرصك على الحصول على علاقات ذات معنى كلما اشتد الصغط في حياتك أو ازداد نجاحك
النظر إلى التوتر والضغط على أنّه تحدٍّ لك وعقبة يمكن تجاوزها عن طريق فهم أنّ الضغط والتوتر هو أمر طبيعي في الحياة مع التركيز على "عقلية النمو" أو القدرة على التغيير الموجودة في كل واحد فينا.
أتمنى لك أخيراً حياةً سعيدةً وأسبوعاً رائعاً. وشكراً لوقتك وأتمنى أن يكون موضوع اليوم مفيداً!
كنت قد تحدّثت عن موضوع السعادة سابقاً: كتبت هذا الموضوع من حوالي السنة عن السعادة. برأيي مهم جداً. كيف تصبح سعيداً؟ خلاصة أهم الدراسات
التأثير المخالط يحدث عندما تؤثر متغيرات خارجية لم يتم الأخذ بها في الاعتبار بشكل صحيح على العلاقة بين المتغير المستقل والمتغير التابع، مما يؤدي إلى تحريف النتائج والاستنتاجات المتعلقة بالعلاقة بينهما.
إليك رابط هذا الموضوع البالغ في الأهمية: الانعزال الاجتماعي أخطر من تدخين ١٥ سيجارة يومياً
موضوع مهم آخر أدعوك بشدة لقراءته: عن التوتر النفسي والتحفيز
راجع هذا الموضوع لأنّه يتحدّث عن هذه النقطة تماماً، وكيف يمكنك الاستفادة من ذلك لصالحك: لماذا ليس لديك وقت؟



